تداعيات سقوط الأسد- فرص وتحديات أمام الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية

المؤلف: محمد غازي الجمل09.25.2025
تداعيات سقوط الأسد- فرص وتحديات أمام الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية

إن تفكك نظام الأسد يمثل منعطفاً تاريخياً في المشهد السياسي الإقليمي برمته، حيث يفتح آفاقاً واعدة ويفرض تحديات جسيمة على دولة الاحتلال الصهيوني وأعدائها على حد سواء.

ففي حين أنه قد يبدو مكسباً آنياً لإسرائيل، إلا أنه يحمل في طياته تهديداً بعيد المدى، سواءً بسبب الأوضاع المتقلبة التي يُتوقع أن تشهدها سوريا في المرحلة القادمة، أو بفعل التأثير العميق لنجاح الثورة السورية على امتداد الدول العربية، وعلى مسيرة التطبيع العربي-الإسرائيلي المتعثرة.

علاوة على ذلك، فإن انتصار الثورة السورية من شأنه أن يعزز بشكل كبير فرص نشوء بيئة إقليمية مغايرة تماماً للبيئة الراهنة، التي أنتجت العجز العربي المزمن في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وذلك بالنظر إلى الأهمية الجيوسياسية لفلسطين وخصوصية الصراع العربي-الإسرائيلي الممتد.

وعلى الرغم من الردود الخافتة والمواقف الضبابية التي أبدتها السلطة الجديدة في دمشق، فإن أي نظام حر، يستمد شرعيته من شعبه، لن يقبل على الإطلاق باستمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري المحتل، ولا باستمرار الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لأجوائه وأراضيه.

الجغرافيا السياسية لفلسطين

بالتمعن في الخريطة السياسية لفلسطين، يتضح بجلاء أن فرص تحريرها من الداخل تبدو ضئيلة للغاية، وذلك بسبب الهيمنة العسكرية الإسرائيلية المطلقة، وغياب العمق الإستراتيجي لأي مقاومة فلسطينية، فالعمل المقاوم يتطلب خطوط إمداد مستمرة تزوّده بالموارد المادية والبشرية اللازمة، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً في قطاع غزة المحاصر بشكل دائم، وينطبق الأمر ذاته على الضفة الغربية المحتلة، وفي المقابل، وقف حزب الله اللبناني وحيداً في البيئة السياسية اللبنانية المنقسمة، التي رفضت بالإجماع ربط جبهة لبنان بجبهة غزة، وذلك لارتباطه بالانقسامات السياسية الداخلية والخارجية.

وإذا كان تحرير فلسطين من الداخل أمراً مستبعداً في ظل المعطيات الراهنة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً للتحرير يكمن في حدوث تغيير جذري في البيئة السياسية المحيطة بها، ونشوء أنظمة عربية لا تراهن على السلام الزائف مع إسرائيل، وفي هذا السياق، فإن نشوء أي نظام عربي يعبر بصدق عن الإرادة الحرة لشعبه، من المرجح أن يتبنى سياسة معادية لإسرائيل، باعتبارها قوة احتلال لأراضي فلسطين ولبنان وسوريا، ولما تمثله من تهديد استراتيجي حقيقي للمنطقة بأسرها، حيث إنها تمنع وحدتها وتكاملها على أساس ما يجمع بين شعوبها من قواسم مشتركة في الدين واللغة والتاريخ والثقافة والحضارة، وتسعى بدلاً من ذلك إلى إنشاء تحالفات مشبوهة تحيّد هذه العوامل وتتخذ من الانقسامات الطائفية عنواناً ومبرراً لوجودها، كما هو الحال في اتفاقات التطبيع المخزية، التي تسعى إلى جمع المسلمين السنة مع الصهاينة اليهود لمحاربة المسلمين الشيعة، وهي وصفة جاهزة لصراع لا نهاية له، فالانقسام الطائفي موجود منذ قرون، في حين أن الوجود الإسرائيلي هو وجود طارئ، يتذرع بوجود سابق اندثر منذ آلاف السنين.

"خطر النموذج"

كما أن فكرة الجهاد العابر للحدود، ونصرة المسلمين لبعضهم البعض، تشكل مصدراً دائماً للرعب والقلق لدى دولة الاحتلال، فعلى الرغم من تفوقها العسكري والتكنولوجي المدعوم من الغرب، فإنها في نهاية المطاف كيان صغير وهش، وسط محيط هائل من المسلمين والعرب، وفي حال تعرضها لاستنزاف عسكري طويل الأمد، فإن مكانتها وقوتها وتماسكها الداخلي ستكون عرضة للتدهور والانحدار، بل وحتى لخطر الانهيار التام.

في المقابل، فإن قدرة شعوب المنطقة على الصمود والمقاومة أكبر بكثير، فهم يعيشون على أرضهم، ويدافعون عن وحدتهم ومصالحهم الطبيعية المشروعة.

كما يحمل نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام الأسد潜在力إمكانية نشوء "تأثير الدومينو"، وذلك بأن تستلهم شعوب عربية أخرى ما حدث في سوريا لتكرره على أراضيها، وهو ما يحمل في طياته خطر انهيار اتفاقات السلام والتطبيع المهينة التي عقدتها إسرائيل مع عدد محدود من دول المنطقة.

مخاوف إضافية للاحتلال

ويضاف إلى ذلك مخاوف إسرائيل المتزايدة من نشوء نظام حكم رشيد يقوده "مجاهدون" على حدودها، مع وجود توجه دولي وإقليمي متزايد للاعتراف به، وتعزيز النفوذ التركي ووصوله إلى الحدود الشمالية لدولة الاحتلال، خصوصاً مع الحديث التركي الرسمي عن التوجه نحو التعاون الدفاعي مع دمشق، ويتعزز هذا الخوف بفعل بوادر تقارب تركي-سعودي يشمل النظام الناشئ في سوريا، وهو ما يهدد بإنشاء مركز ثقل إقليمي منافس لإسرائيل، ما يشكل مصدر إزعاج وقلق كبيرين، خصوصاً مع تراجع الدور الإيراني الإقليمي الملحوظ، وحرص إسرائيل الشديد على أن تملأ الفراغ الناشئ بنفسها، لا أن تسمح لتركيا أو غيرها بالتمدد فيه.

فرص للاحتلال

لقد نال الاحتلال الصهيوني مكاسب عاجلة وملموسة بتقويض الوجود الإيراني المتنامي في سوريا، وما يعنيه ذلك من إضعاف كبير لإيران ولحزب الله اللبناني، الذي انقطع خط إمداده البري بانهيار نظام الأسد، كما تشكل حالة الضعف والفوضى التي تمر بها سوريا فرصة ذهبية لإسرائيل، من خلال التدخل العسكري والسياسي المباشر في التشكل الجديد للدولة.

وعلى الرغم من أن سقوط نظام الأسد يشكل ضربة موجعة لما يسمى "محور المقاومة"، فإن التأثير المباشر لذلك لم يكن لينعكس بشكل حاسم على القضية الفلسطينية، إذ كان حزب الله قد وقّع بالفعل اتفاقاً لوقف إطلاق النار على جبهة شمال فلسطين قبل بدء عملية "درع الشمال"، ولم يكن متوقعاً له استئناف الحرب في المدى المنظور، كما كانت إيران قد جنحت إلى التهدئة عقب فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كما يشير دعمها لقرار الحزب بوقف الحرب، وامتناعها عن الرد على الهجمات الإسرائيلية المتكررة عليها، وكذلك الانخفاض الملحوظ في وتيرة هجمات الفصائل العراقية الموالية لإيران على إسرائيل.

توجه الاحتلال

في التعامل مع الفرص والتحديات الناشئة، يبدو أن دولة الاحتلال الصهيوني تسعى إلى تحقيق جملة من الأهداف، منها:

  1. تثبيت نفسها كطرف أساسي لا يمكن تجاوزه، يجب التفاهم معه بشأن مستقبل الأوضاع في سوريا، وقد يكون الهدف من التصعيد الإسرائيلي الحالي هو جر النظام الجديد إلى مواجهة عسكرية وهو في حالة ضعف شديد، بما يفرض تسوية سياسية أو هدنة جديدة ملزمة له، دون إعادة الحقوق المشروعة لسوريا، وهو ما يتفادى النظام الجديد في دمشق الاستجابة له بحكمة، وهو سلوك استفزازي يدفع إسرائيل إلى تعميق وإدامة عدوانها، في ظل ما يبدو أنه ضوء أخضر أمريكي خفي.
  2. الحفاظ على حرية العمل العسكري بشكل كامل، جوياً وبرياً، امتداداً وتطويراً لما كان عليه الحال في السنوات الماضية العجاف، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، حرصت دولة الاحتلال على مواصلة هجماتها العسكرية المتواصلة لتكريس هذا الواقع المرير، إضافة إلى تدمير أهم القدرات العسكرية التي كانت لدى جيش النظام السابق، من خلال عمليات القصف واسعة النطاق، وترسخ هذه الهجمات العدوانية الكراهية الشعبية لإسرائيل، وتدفع الصراع بين سوريا وإسرائيل إلى حالة النشاط والتأجج من جديد، مع ما في ذلك من تداعيات إقليمية خطيرة.

توجه الحكام الجدد

في مواجهة المعضلة الإسرائيلية المعقدة، يبدو أن للقيادة السورية الجديدة محددات رئيسية تحكم سلوكها، منها:

  1. حماية عملية بناء الدولة الوليدة، ومنع إجهاضها قبل أن تستكمل مراحلها الأولية، فمن شأن أي حرب مع دولة الاحتلال في هذه المرحلة الحرجة أن تقوض المسار السياسي الجديد، وتمنع توحيد الدولة وبناء جيشها الوطني وعلاقاتها الخارجية المتوازنة.
  2. تجنب الإقرار بأي دور إسرائيلي في تحديد شكل المرحلة القادمة، أو وضع أي اشتراطات مسبقة، مع إرسال إشارات واضحة بأنها غير معنية بالصراع مع الاحتلال في الوقت الحالي، كما يتضح في التصريحات الحكيمة لوزير الخارجية الجديد، ومحافظ دمشق، ومدير شرطة القنيطرة بهذا الخصوص.
  3. التعامل بحكمة مع أولويات التهديد، والبدء بالتهديدات العاجلة والجوهرية، كتفكيك بقايا البنى المسلحة التابعة للنظام السابق، والتي لا تزال تملك السلاح والتدريب والخبرة والدوافع القوية لإفشال المرحلة الانتقالية، ولأن الكثيرين من أبنائها عرضة للمحاسبة والمحاكمة، وقد يرون في الفوضى الخلاقة مخرجاً لهم من هذا التهديد الوجودي.
  4. بسط السلطة السياسية والعسكرية على كامل الأراضي السورية، بما يشمل المناطق الشرقية من دير الزور والجزيرة الفراتية الخصبة.
  5. إخراج القوات الأجنبية الغازية من الأراضي السورية، ومنعها من العمل على أراضيها، حيث تحرص القوات الأمريكية والفرنسية على شن هجمات متفرقة على تنظيم الدولة المتطرف، وتصدر الإدارة الأمريكية تصريحات متشددة تؤكد على استمرارية عملها في الحملة المزعومة على تنظيم الدولة في سوريا.
  6. بناء قوة عسكرية ضاربة، وعقد تحالفات استراتيجية توفر الغطاء السياسي والعسكري اللازم، بما يمكن الدولة من مواجهة التهديدات الخارجية المتزايدة، كالتهديد الإسرائيلي وغيره من التهديدات المحتملة.

أثر الاستقرار أو عدمه

فيما يبدو أن القيادة السورية الجديدة تتجه بثبات نحو ترسيخ سلطتها وتعزيز مكانتها، وتقدم خطاباً وحدوياً وسياسياً يصعب انتقاده خارجياً، يبقى استقرار النظام الجديد مرتبطاً بالعديد من الأمور الجوهرية، كالقدرة على إقامة نظام حكم رشيد يمثل جميع فئات الشعب السوري العظيم، والقدرة على بناء الانتماء الوطني الصادق وإعادة صياغة الهوية الوطنية الجامعة، والقدرة على إعادة بناء القوة العسكرية الرادعة، وإدارة التحالفات السياسية والعسكرية بحكمة، بما يوفر الحماية والأمن للشعب السوري، وبما يتناسب مع هويته ومصالحه الكبرى.

كما يبرز التحدي الكبير المتمثل في التعامل بحنكة وذكاء مع المواقف المتضاربة والمتناقضة للأطراف الدولية والإقليمية المختلفة، حيث تسعى الولايات المتحدة جاهدة إلى إبقاء قضية مكافحة الإرهاب عموماً، وتنظيم الدولة الإسلامية المتطرف خصوصاً، كمبرر واه لاستمرار الوجود العسكري غير الشرعي والتحكم في مسار الأحداث في سوريا، خصوصاً في ظل التنافس الشرس مع روسيا على النفوذ والنصيب الأكبر من الكعكة السورية.

فيما تسعى تركيا الطموحة إلى أن تكون سوريا بوابة واسعة لنفوذها وتأثيرها المتزايد باتجاه العالم العربي برمته، وهو ما قد تواجهه بعض دول المنطقة بالممانعة الشديدة والرفض القاطع.

وبدورها، تخشى العديد من الدول العربية من نجاح نموذج الثورة الشعبية السورية على النظام المستبد، وهو ما قد يدفعها إلى العمل بكل ما أوتيت من قوة لإفشال هذه التجربة الرائدة، من خلال التأثير السلبي في بعض أطراف المعارضة السورية الهشة، في مسار مماثل لما حصل للأسف في ليبيا ومصر وتونس والسودان واليمن.

في حين تربط إيران بقاء دعمها الاقتصادي السخي للنظام الجديد في سوريا، بموقفه الواضح من دورها المحوري في سوريا والإقليم.

ولا شك أن نجاح سوريا الجديدة في امتلاك عناصر القوة الحقيقية، المتمثلة في الشرعية السياسية المستمدة من الشعب، والبناء الاقتصادي المتين، والقوة العسكرية الرادعة، يشكل تهديداً وجودياً للنفوذ الإسرائيلي المتغطرس، خصوصاً في ظل عدم وجود اتفاقية سلام بين البلدين، وبالمقابل، فإن نشوء حالة من الفوضى العارمة يحمل تهديدات من نوع آخر بالنسبة لإسرائيل، كاضطراب الأوضاع الأمنية في الأردن المجاور.

وبخلاصة موجزة، فإن انهيار نظام الأسد يمثل فرصة استراتيجية سانحة للقضية الفلسطينية العادلة ولشعوب المنطقة المقهورة، على الرغم من الاستفادة المبكرة للاحتلال الصهيوني من هذا الحدث الجلل، ومن المرجح أن تتسع تداعيات الوضع الجديد بفعل قوة النموذج الملهم، الذي أظهر نجاح الشعب السوري في مواجهة استراتيجية البطش والقوة المفرطة، بما يناسبها من وسائل العمل الثوري والتغيير المنشود.

وبالمقابل، فإن الاستراتيجية التي يتبناها النظام الجديد بشأن التعامل مع دولة الاحتلال، ستكون ذات تأثير حاسم بشأن استثمار هذه الفرصة الذهبية من عدمه، فإذا كانت مواقفه الحالية المتزنة تجاه الاحتلال مجرد تكتيك مؤقت، يهدف إلى كسب الوقت الثمين وبناء القوة الكامنة، وهو الأمر الأكثر ترجيحاً، فهذا يعني بوضوح أن سوريا ستشكل مصدراً للتهديد الاستراتيجي الحقيقي للاحتلال في السنوات القادمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة